جاء في سنن الترمذي، باب مناقب أهل النبي،
الجزء الخامس ما نصه:
عن زيد بن أرقم رضي
الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني تارك فيكم
ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من
السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف
تخلفوني فيهما»
أبدأ كلامي بهذا
الحديث الشريف الذي سيثير دهشة البعض لعدم علمه به، وسيتشكك في صحته البعض الآخر..
ولكي لا أرهق المتشككين بالبحث في هذا الأمر فإنني أؤكد لكم بادئ ذي بَدء أن هذا
الحديث صحيحٌ متواتر، بل وصححه الألباني نفسه، ورغم أن الألباني ليس بحجة على حديث
رسول الله إلا أنه ممن يثق فيه المتشددون في علم الحديث، لذلك أوردت اسمه من باب
التأكيد على صحة الحديث الشريف بما لا يدع مجالاً للشك.
دهشة الكثير ممن
سيقرأون هذا الحديث ستكون من عدم علمهم بوجوده على الإطلاق وعدم سماعه من الخطباء
والشيوخ والوعاظ والدعاة .. ولهم في ذلك كل الحق .. فما اعتدنا على سماعه دوماً هو
الحديث – الصحيح أيضاً- الذي نصه: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي
أبداً: كتاب الله وسنتي».. بل إننا لو سألنا أي مسلم بالغ عن مقدمة الحديث ووقفت
عند كلمة "كتاب الله" سيكمله على الفور "وسنتي".. الأمر الذي
يجعلك تتشكك في سر انتشار هذا الحديث واندثار الآخر إلى حد استنكار السامع له.
ولكي لا يغرق القارئ
في بحر الحيرة بين الحديثين، يجدر بي أن أقول بأن الجمع بين الحديث الأول والثاني
ليس بالأمر العسير ولا تناقض بينهما؛ فحديث «وسنتي» يكمله حديث «وعترتي أهل بيتي»،
وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد منا أن نفهم أن الطريق إلى سنته
هم نسْلُه وأَقرباؤُه من أهل بيته عليهم وعلى جدهم أفضل صلاة
وأتم تسليم، وهذا هو معنى قوله «وعترتي».
ولنا
هنا وقفة .. وقفة تأمل تستدعي معها سؤالين: أولهما لماذا لم ينتشر هذا الحديث بين
الناس؟ والإجابة على هذا السؤال تكمن في كلمة واحدة هي «الشيوخ» .. فالشيوخ
والوعاظ هم المسئول الأول عن عدم نشر هذا الحديث الهام الصحيح المتواتر بين الناس
في خطبهم ودروسهم الدينية.. أما سبب عدم نشرهم له فهو إما جهل منهم وتلك مصيبة ..
كما أنه من المستبعد على جميع الشيوخ جهلهم بهذا الحديث خاصة ممن تبحر منهم في علم
الحديث وهم ليسوا بقلة في وسط الوعظ، وإما كتمان للحديث بهدف عدم إثارة الفتنة بين
العامة، لأن نشر هذا الحديث يترتب عليه السؤال الثاني الذي سيطرأ على ذهن المتأمل
في الحديث المذكور وهو: كيف نتمسك بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وسأشرح هذا بشيء من التفصيل في الفقرة التالية ولكن .. إذا كان هذا السبب الثاني
هو ما دعا بعض الشيوخ إلى كتمان هذا الحديث فالمصيبة أعظم! إذ كيف لهم أن يكتموا
حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم –مهما كانت المسوغات- وهو القائل في
ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «من سُئِل عن علم ثم كتمه
أُلجِم يوم القيامة بلجامٍ من نار« .. والله سبحانه يقول في كتابه العزيز: «إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البيناتِ والهُدَى من بعد ما بيناهُ للناسِ في الكتابِ أولئك
يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»!!
أما السؤال الثاني
الذي ذكرته في الفِقرة السابقة وهو: كيف لنا أن نتمسك بعترة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نرجع بذاكرتنا إلى ما بعد
الحكم الراشدي الذي انتهى بتسليم سيدنا الإمام الحسن بن الإمام علي - رضي الله
عنهما وأرضاهما- الحكم لمعاوية حقناً لدماء المسلمين. فمع تسلم معاوية بن أبي
سفيان الحكم بدأ ملك بني أمية.. وكما يعلم الجميع، فإن علوم الدين دائماً ما ترتبط
بالأحداث السياسية الجارية .. وكثيراً ما تتحكم فيها السياسة أو تغلب عليها بشكل
أو آخر .. ومن المعروف أيضاً أن فترة حكم بني أمية امتلأت بالظلم والحقد على آل
بيت رسول الله صلى الله عليه وآله .. وهذا الأمر ليس محض افتراء عليهم ولكنه واضح
لكل ذي لُبٍ إذا ما رجع إلى كتب التاريخ .. فالأمر لا يتوقف عند مقتل سيدنا الإمام
الحسين رضي الله عنه وأرضاه ولكن القارىء للتاريخ الإسلامي -الذي لا يظهر لنا منه
إلا القليل- يجد أن معظم أئمة آل البيت قُتلوا أو سُجنوا وأن أتباعهم وأنصارهم
نُكّل بهم أيما تنكيل، حتى صارت مجرد مناصرة آل البيت حينئذٍ تهمة تستوجب تعذيب
صاحبها وقمعه أو دفعه للصمت .. وسنشرح هذا الأمر بالتفصيل فيما بعد مع كل شخصية
سأحكي عنها في المقالات القادمة بإذن الله.. ويكفينا في إثبات مدى خطورة نشر بعض
العلم أيامها ما ورد في صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
«حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته في الناس،
وأما الآخر فلو بثثته لقُطِعَ هذا البلعوم» أي لقُتِل.
وخلاصة القول هنا
والتي كانت سبباً لدخولي في شيء من التفصيل في أمر يطول شرحه، هو أن ما ذكرته كان
سبباً هاماً في اختفاء سيرة آل البيت من كتب السير الإسلامية، وتضارب الأقوال في
كثير من القليل الذي ورد عنهم، واقتصرت سيرتهم التفصيلية على أتباع المذهب الشيعي
المبني أيضاً على السنة النبوية المطهرة ولكن بسلسلة روايةٍ تختلف عن التي
يروي عنها أهل السنة. وما ورد عند الشيعة من مأثورات عن آل البيت عليهم وعلى جدهم
أفضل صلاة وأتم تسليم أُخِذ ممن عاصروا وعاشروا آل البيت والتفوا حولهم رغم قسوة
الظروف وصبروا على ما أوذوا وبقي منهم من شاء الله له أن يبقى حتى يبلغ عنهم ما
عرفوه من علم عن أئمتهم من آل البيت .. وهذا لا يعني أن كل ما ورد عندهم هو صحيح
في ذاته ولكني أشرح بشكل سريع كيفية وصول الأحاديث النبوية ومأثورات أهل البيت
إليهم .. وللعلم، فلدى الشيعة تصنيف للصحيح والضعيف من تلك الأحاديث والمأثورات،
وهناك الكثير من الأحاديث المشتركة بين ما ورد عندهم وما ورد عند أهل السنة.
نعود إلى السؤال مرة
أخرى: كيف لنا أن نتمسك بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
الإجابة تتلخص في عدة نقاط ..
أولاً: البحث في
سيرتهم وتفنيدها حتى نقع على الصحيح منها فنأخذ به والمدسوس عليهم مما يخرج عن
نطاق العقل والمنطق بما لا يُمكن أن يُصدَّق عليهم فنتركه .. وهذا أمر يقع على
عاتق الشيوخ ورجال الأزهر والدين في كل مكان من شتى بقاع العالم الإسلامي .. ولا
يعني هذا ألا يبحث فيه غير المتخصصين في علم الحديث .. فالبحث والمعرفة واجبان على
كل عاقل .. ولكن البحث لغير المتخصص سيدفعه للتساؤل عن بعض أمور لن يجد الإحابة
عليها إلا عند المتخصصين ممن تبحروا في هذا العلم .. لذا وجب إلقاء الأمر على عاتق
الشيوخ والمتخصصين في علم الحديث .. وهذا الأمر لن يفيد المسلمين في الشأن الديني وحسب،
بل والسياسي والثقافي والإنساني أيضاً.. فالاهتمام بهذا الأمر سيجعلنا نجد أرضية
مشتركة نبني عليها فكرة الوحدة الإسلامية بين مختلف المذاهب والتوجهات.. فالوحدة
الإسلامية لن تتحقق على أرض الواقع إلا بإيجاد المشترك بين كل الفرق المتناحرة ..
والمشترك بينها كثير إذا ما دققنا في بحثنا الصادق المبني على نبذ العصبية
المذهبية والتشدد والمغالاة من جميع الأطراف..
ثانيا: البحث عن
أدعية آل البيت والتي يسرت لنا وسائل التكنولوجيا الحديثة الوصول إليها عن طريق
شبكة الإنرنت .. ويجدر بي هنا أن أنبه إلى أن معظم أدعية آل البيت للأسف لن نجدها
إلا في كتب الشيعة .. وذلك كما نوهتُ سابقاً كان لأسباب سياسية حالت دون انتشار
هذه الأدعية بين عامة المسلمين .. ولا يشككنَّ أحدكم في صحة الأخذ بهذه الأدعية ..
فالدعاء مخ العبادة .. والدعاء جوهره يكمن في إخلاص الداعي وليس في مصدر الدعاء ..
فالله سبحانه وتعالى يسمع دعاء الجميع .. المسلم وغير المسلم .. وأساس قَبول
الدعاء هو الآية الكريمة «إنما يتقبل الله من المتقين» .. كما قال سبحانه وتعالى:
«ادعوني أستجب لكم» .. وسأفرد مقالاً عن أدعية آل البيت وكيفية الوصول إليها في
مقال لاحق بإذن الله.
ثالثاً: البحث في
تاريخ آل البيت، وهو أمر كتب فيه بعض المؤرخين، ولا يصعب على القارىء معرفة ما هو
منطقي مما كُتِبَ وما هو غير منطقي .. ولن يضر أحد إذا ما قرأ لعدة كُتَّـاب في
هذا المجال، كما أن القراءة في هذا المجال ستفتح الباب لتفهُّم الكثير من الأمور
التي نعاني منها في الوقت الراهن .. فالقراءة هي باب المعرفة .. والتمسك بكتاب
الله يبدأ بقراءة هذا الكتاب العزيز ومحاولة فهمه .. والتمسك بنبينا وسيدنا محمد
صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالقراءة في سيرته وسنته ومحاولة فهمها وتطبيقها ..
وكذلك التمسك بآل البيت رضوان الله عليهم أجمعين .. فالتمسك بهم يبدأ بالقراءة في
سيرتهم من هنا أو هناك ومحاولة فهم جوهرهم وخلاصة ما وصلنا عنهم من مأثورات.
رابعاً: البحث عن ما
هو مأثور عن سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه وأرضاه من أقوال ودعاء وحكم
وشعر.. وفي هذه النقطة أنقل لكم ما أورده الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وصححه
الألباني عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم قال : سمعت الحسن بن علي قام فخطب
الناس فقال : يا أيها الناس! لقد فارقكم أمس رجل ما سبقه الأولون بعلمٍ، ولا
يدركه الآخرون»، وقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: « والله لقد أعطي علي بن أبي
طالب تسعة أعشار العلم ، وايمُ اللهِ لقد شارككم في العشر العاشر»
وجاء في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر الأندلسي قال: قالت عائشة رضي الله عنها:
«من أفتاكم بصوم عاشوراء؟ قالوا: علي رضي الله عنه. قالت أما إنه لأعلم الناس
بالسنة«
كما رُوي عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب من أكثر من طريق قوله: «سَلُونِي
فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَسَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ, فَوَاللَّهِ مَا
مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ وَأَمْ فِي
سَهْلٍ أَمْ فِي جَبَلٍ».
أما فيما قاله سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سيدنا الإمام علي كرم الله
وجهه فسأكتفي هنا بما ذُكر في صحيح البخاري ومسلم عن رسول الله أنه قال: « ألا
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي»، وفي حديث آخر في
صحيح البخاري أنه قال لسيدنا الإمام علي كرم الله وجهه: «أنت مني وأنا منك».
وسأُفرِدُ
مقالاً مُطولاً أنقل فيه ما ورد في فضل سيدنا الإمام علي من أحاديث في كتب السنة
قال عنها الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: «لم ينقل لأحدٍ من الصحابة ما نقل
لعلي رضي الله عنه»، حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عيّنه قاضياً وكان
يقول: «لولا عليٌّ لهلك عُمَر».
ولا شك في أننا إذا
بدأنا البحث من أية نقطة مما ذكرتُ، سيأخذنا البحث إلى الطريق الذي يجعلنا نصل إلى
الأخذ بالحديث الذي ذكرته في أول المقال..
هذا هو مقالي الأول
الذي أتقرب به إلى الله تعالى ونبيه حبيبي المصطفى وآله الكرام .. وسيكون هذا
المقال فاتحة سلسلة من المقالات بإذن الله خصصت لها هذه المدونة في سبيلي للأخذ
بحديث حبيبي الذي ذكرته في أول كلامي وليكون شاهداً أمام حبيبي حين يسألني عن
قوله: «فانظروا كيف تخلفوني فيهما»...
وكما بدأت أول
كلامي بحديث لحبيبي وسيدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أختم كلامي بحديثه الوارد
في صحيح مسلم في باب (من فضائل علي بن أبي طالب) الجزء السابع:
عن زيد بن الأرقم رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ
قَالَ «أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
يُوشِكُ أَنْ يَأْتِىَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ
ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا
بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ». فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ « وَأَهْلُ بَيْتِى .. أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ
فِى أَهْلِ بَيْتِى .. أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى.. أُذَكِّرُكُمُ
اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِى ».
صباح الأربعاء
15 رمضان 1434هـ
24 يوليو 2013 م